فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (16):

{أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} قال سيبويه: ضمت الواو في: {اشْتَرَوُا} فرقا بينها وبين الواو الأصلية، نحو: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16].
وقال ابن كيسان: الضمة في الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها.
وقال الزجاج: حركت بالضم كما فعل في نحن. وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين.
وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السمال العدوي أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحا. وأجاز الكسائي همز الواو وضمها كأدؤر. واشتروا: من الشراء. والشراء هنا مستعار. والمعنى استحبوا الكفر على الايمان، كما قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} [فصلت: 17] فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه. فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم.
وقال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الايمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم ** فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وأصل الضلالة: الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة، قال عز وجل: {فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] أي الناسين. ويسمى الهلاك ضلالة، كما قال عز وجل: {وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10].
قوله تعالى: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: ربحت وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك وصمت في نهارك، أي فما ربحوا في تجارتهم.
وقال الشاعر:
نهارك هائم وليلك نائم ** كذلك في الدنيا تعيش البهائم

ابن كيسان: ويجوز تجارة وتجائر، وضلالة وضلائل.
قوله تعالى: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} في اشترائهم الضلالة.
وقيل: في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال، وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (17):

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)}
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، فهي اسم، كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وقول امرئ القيس:
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ** تصوب فيه العين طورا وترتقي

أراد مثل الطعن، وبمثل ابن الماء. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه. والمتماثلان: المتشابهان، هكذا قال أهل اللغة. قوله: {الَّذِي} يقع للواحد والجمع. قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد، كما قال:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقيل في قول الله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]: إنه بهذه اللغة، وكذلك قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي} قيل: المعنى كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. فأما قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} [التوبة: 69] فإن الذي هاهنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا.
وقيل: إنما وحد {الَّذِي} و{اسْتَوْقَدَ} لان المستوقد كان واحدا من جماعة تولى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعا فقال: {بِنُورِهِمْ}. واستوقد بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش، ومنه قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجبه. واختلف النحاة في جواب لما، وفي عود الضمير من {نورهم}، فقيل: جواب لما محذوف وهو طفئت، والضمير في: {نورهم} على هذا للمنافقين، والاخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة، كما قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ} [الحديد: 13].
وقيل: جوابه {ذهب}، والضمير في: {نورهم} عائد على {الذي}، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. والمعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين، وذلك أن ما يظهرونه من الايمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها وراي ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرا، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم كما أخبر التنزيل: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] ويذهب نورهم، ولهذا يقولون: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13].
وقيل: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها. وقيل غير هذا. قوله: {نارا} النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق. وهي من الواو، لأنك تقول في التصغير: نويرة، وفي الجمع نور وأنوار ونيران، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها. وضاءت وأضاءت لغتان، يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضئ، يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: ضاءت بغير ألف، والعامة بالألف، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

{ما حَوْلَهُ} {ما} زائدة مؤكدة.
وقيل: مفعولة بأضاءت. و{حوله} ظرف مكان، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. و{ذَهَبَ} وأذهب لغتان من الذهاب، وهو زوال الشيء. {وَتَرَكَهُمْ} أي أبقاهم. {فِي ظُلُماتٍ} جمع ظلمة. وقرأ الأعمش: {ظلمات} بإسكان اللام على الأصل. ومن قرأها بالضم فللفرق بين الاسم والنعت. وقرأ أشهب العقيلي: {ظلمات} بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف.
وقال الكسائي: {ظلمات} جمع الجمع، جمع ظلم. {لا يبصرون} فعل مستقبل في موضع الحال، كأنه قال: غير مبصرين، فلا يجوز الوقف على هذا على {ظلمات}.

.تفسير الآية رقم (18):

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)}
قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}.. {صُمٌّ} أي هم صم، فهو خبر ابتداء مضمر.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود وحفصة: صما بكما عميا، فيجوز النصب على الذم، كما قال تعالى: {مَلْعونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا} [الأحزاب: 61]، وكما قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، وكما قال الشاعر:
سقوني الخمر ثم تكنفوني ** عداة الله من كذب وزور

فنصب عداة الله على الذم. فالوقف على {يُبْصِرُونَ} على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صما ب {تَرَكَهُمْ}، كأنه قال: وتركهم صما بكما عميا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {يُبْصِرُونَ}. والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة. وصممت القارورة إذا سددتها. فالاصم: من انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس.
وقيل: الأخرس والأبكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبكيم، أي أخرس بين الخرس والبكم، قال:
فليت لساني كان نصفين منهما ** بكيم ونصف عند مجرى الكواكب

والعمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الامر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66]. وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما، تقول: فلان أصم عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
أصم عما ساءه سميع

وقال آخر:
وعوراء الكلام صممت عنها ** ولو أني أشاء بها سميع

وقال الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت ** حتى يواري جارتي الجدر

وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:
أدخل إذا ما دخلت أعمى ** وأخرج إذا ما خرجت أخرس

وقال قتادة: {صُمٌّ} عن استماع الحق، {بُكْمٌ} عن التكلم به، {عُمْيٌ} عن الأبصار له.
قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاة آخر الزمان في حديث جبريل: «وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها». والله أعلم.
قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعا، ورجعه غيره، وهذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31] أي يتلاومون فيما بينهم، حسب ما بينه التنزيل في سورة سبأ.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)}
قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ} قال الطبري: {أَوْ} بمعنى الواو، وقاله الفراء. وأنشد:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ** لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وقال آخر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا ** كما أتى ربه موسى على قدر

أي وكانت.
وقيل: {أَوْ} للتخيير أي مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، والمعنى أو كأصحاب صيب. والصيب: المطر. واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل، قال علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر ** سقتك روايا المزن حيث تصوب

وأصله: صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين.
وقال بعض الكوفيين: أصله صويب على مثال فعيل. قال النحاس: لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب.
قوله تعالى: {مِنَ السَّماءِ} السماء تذكر وتؤنث، وتجمع على أسمية وسموات وسمي، على فعول، قال العجاج:
تلفه الرياح والسمي

والسماء: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: المطر، سمي به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت:
ديار من بني الحسحاس قفر ** تعفيها الروامس والسماء

وقال آخر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلا والطين. ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه، قال:
وأحمر كالديباج أما سماؤه ** فريا وأما أرضه فمحول

والسماء: ما علا. والأرض: ما سفل، على ما تقدم.
قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُماتٌ} ابتداء وخبر {وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} معطوف عليه. وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، وهو الغيم، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في الرعد، ففي الترمذي عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله». فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله» قالوا: صدقت. الحديث بطوله. وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. فالرعد: اسم الصوت المسموع، وقاله علي رضي الله عنه، وهو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته:
فجعني الرعد والصواعق بال ** فارس يوم الكريهة النجد

وروي عن ابن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت. واختلفوا في البرق، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب.
قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي. وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب. وعنه أيضا البرق ملك يتراءى. وقالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب. والبرق ما ينقدح من اصطكاكها. وهذا مردود لا يصح به نقل، والله أعلم. ويقال: أصل الرعد من الحركة، ومنه الرعديد للجبان. وارتعد: اضطرب، ومنه الحديث: «فجئ بهما ترعد فرائصهما» الحديث. أخرجه أبو داود. والبرق أصله من البريق والضوء، ومنه البراق: دابة ركبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله. ورعدت السماء من الرعد، وبرقت من البرق. ورعدت المرأة وبرقت: تحسنت وتزينت. ورعد الرجل وبرق: تهدد وأوعد، قال ابن أحمر:
يا جل ما بعدت عليك بلادنا ** وطلابنا فأبرق بأرضك وأرعد

وأرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق.
وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد، وأنكره الأصمعي. واحتج عليه بقول الكميت:
أبرق وأرعد يا يزي ** د فما وعيدك لي بضائر

فقال: ليس الكميت بحجة.
فائدة:
روى ابن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار، قال: فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفرق الناس. قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس. قال: وما ذاك؟ قال: فحدثته حديث كعب. قال: سبحان الله! أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! في رواية فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به.
وستأتي هذه الرواية في سورة الرعد إن شاء الله. ذكر الروايتين أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين. وعن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك».
قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام، وذلك عندهم كفر والكفر موت.
وفي واحد الأصابع خمس لغات: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، وإصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال بفتحهما جميعا، وضمهما جميعا، وبكسرهما جميعا، وهي مؤنثة. وكذلك الاذن وتخفف وتثقل وتصغر، فيقال: أذينة. ولو سميت بها رجلا ثم صغرته قلت: أذين، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر. فأما قولهم: أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا، والجمع آذان. وتقول: أذنته إذا ضربت أذنه. ورجل أذن: إذا كان يسمع كلام كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وأذاني: عظيم الأذنين. ونعجة أذناء، وكبش آذن. وأذنت النعل وغيرها تأذينا: إذا جعلت لها أذنا. وأذنت الصبي: عركت أذنه.
قوله تعالى: {مِنَ الصَّواعِقِ} أي من أجل الصواعق. والصواعق جمع صاعقة. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق. وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه.
وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد.
وحكى الخليل عن قوم: الساعقة بالسين.
وقال أبو بكر النقاش: يقال صاعقة وصعقة وصاعقة بمعنى واحد. وقرأ الحسن: من {الصواقع} بتقديم القاف، ومنه قول أبي النجم:
يحكون بالمصقولة القواطع ** تشقق البرق عن الصواقع

قال النحاس: وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة. ويقال: صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال الله عز وجل: {فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ} [فصلت: 17] ويقال: صعق الرجل صعقة وتصعاقا، أي غشي عليه، وفي قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] فأصعقه غيره. قال ابن مقبل:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه ** أحاد ومثنى أصعقتها صواهله

وقوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68] أي مات. وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به.
وقيل: مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الاشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق. والصواعق، مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل.
وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما. قول: {حَذَرَ الْموْتِ} حذر وحذار بمعنى، وقرى بهما. قال سيبويه: هو منصوب، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله، وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

وقال الفراء: هو منصوب على التمييز والموت: ضد الحياة. وقد مات يموت، ويمات أيضا، قال الراجز:
بنيتي سيدة البنات ** عيشي ولا يؤمن أن تماتي

فهو ميت وميت، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون. والموات بالضم: الموت. والموات بالفتح: ما لا روح فيه. والموات أيضا: الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد. والموتان بالتحريك: خلاف الحيوان، يقال: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان، أي اشتر الأرضين والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب. والموتان بالضم: موت يقع في الماشية، يقال: وقع في المال موتان. وأماته الله وموته، شدد للمبالغة. وقال:
فعروة مات موتا مستريحا ** فها أنا ذا أموت كل يوم

وأماتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مميت ومميتة. قال أبو عبيد: وكذلك المرأة، وجمعها مماويت. قال ابن السكيت: أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون. والمتماوت من صفة الناسك المرائي وموت مائت، كقولك: ليل لائل، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به. والمستميت للأمر: المسترسل له، قال رؤبة:
وزبد البحر له كتيت ** والليل فوق الماء مستميت

المستميت أيضا: المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت، وفي الحديث: «أرى القوم مستميتين» وهم الذين يقاتلون على الموت. والموتة بالضم: جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران. ومؤتة بضم الميم وهمز الواو: اسم أرض قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} ابتداء وخبر، أي لا يفوتونه. يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا ** بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم

ومنه قول تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42]. وأصله محيط، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت. فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، كما قال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [الزمر: 67].
وقيل: {مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} أي عالم بهم. دليله: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12].
وقيل: مهلكهم وجامعهم. دليله قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي إلا أن تهلكوا جميعا. وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية. والله أعلم.